الخميس، 21 مارس 2019

ورقة بحثية بعنوان: هجرة الأدمغة (هجرة العقول) قدم 2003

وزارة التخطيط
معهد التخطيط للدراسات العليا
قسم تخطيط القوى العاملة

 ورقة بحثية بعنوان: هجرة الأدمغة

مقدمة من ضمن متطلبات مادة :- اقتصاديات التعليم
  
إعداد
الطالب / صالح سلام الهيالي             رقم القيد / 468
 الطالبة / فهيمة الهادي الشكشوكي       رقم القيد / 450
معهد التخطيط للدراسات العليا

 مقدمة إلى :-الدكتور / أحمد أبو لسين

مارس 2003

هجرة الأدمغة


صالح سلام الهيالي                            فهيمة الهادي الشكشوكي

المحتويات

المقدمة
الجزء الأول :- عرض الظاهرة
أولاً : تعريف هجرة الأدمغة " استنزاف العقول "
ثانيا :- الجذور التاريخية لهجرة الأدمغة البشرية
ثالثا : أنواع وأنماط هجرة الأدمغة
رابعا : أهمية الكفايات وكلفة هجرتها
خامساً : مواقف بعض الدول النامية من هجرة الكفايات
سادسا : السمات الأساسية لهجرة العقول البشرية
سابعاً : مشكلة النزيف البشري بين المضار والفوائد
ثامنا :  الأسباب الأساسية الدافعة لهجرة الأدمغة من البلدان الإفريقية والعربية
تاسعاً: الفوائد والجوانب الإيجابية في عملية النزيف البشري
عاشراً : مواجهة ظاهرة الهجرة

الجزء الثاني تحليل الظاهرة
أولاً : تحليل الوضع التنموي العربي كواقع وآفاق للتنمية الإنسانية في العالم العربي
ثانياً : تكلفة هجرة الأدمغة على مستوى الدول العربية

الجزء الثالث الخلاصة والتوصيات
أولاً : الخلاصة
ثانياً : التوصيات

المراجع

المقدمة[1] :

      بعد الحرب العالمية الثانية، ومع اشتداد توجه العصر والتكنولوجيا، وأيضاً مع بروز ظاهرة التحرر الوطني واستقلال الشعوب المستعمرة، شهد العالم ظاهرة جديدة تلعب في وقتنا الراهن دورين متناقضين في آن واحد هي عملية التطور الحضاري ومدها بزخم شديد، وتأخر هذه العملية في الدول النامية. وهذه الظاهرة هي ما يسمى الآن بهجرة الأدمغة أو نزيف الأدمغة.

      وإذا كانت هذه الظاهرة ليست جديدة تماماً، فإنها في الماضي لم تكن تنطوي على الآثار الخطيرة نفسها التي نلمسها في عالمنا الحديث، إضافة إلى أنها كانت ظاهرة فريدة ومحدودة النطاق، فيما تتطور الآن إلى أن يكون لها سوق عالمية تنافسية تخضع للتخطيط المدروس والمنظم، وتتدخل فيها سلطات ومؤسسات رسمية في مواطن الهجرة الجديدة، حتى أن بعض البلدان المستفيدة من الأدمغة المهاجرة قامت بإدخال تعديلات على تشريعاتها الخاصة بالهجرة وبإنشاء مؤسسات مختصة لوسائل جذب الأدمغة إليها، كما فعلت الولايات المتحدة الأمريكية.

      لقد ازدادت هجرة الأدمغة والكفايات العالية خطورة منذ أوائل الستينات، حيث أورث هذا النزف البلدان النامية أثاراً متفاقمةً. وبالرغم من هذه المشكلة قد اتخذت أبعاداً دولية، وبالرغم من السعي الحثيث لإيجاد حلول لها، إلا أن تزايد تدفق العقول المهاجرة ما زال في تصاعد، الأمر الذي يزيد من إشكاليات الدول النامية ويوسع الهوة القائمة بينها وبين الدول الصناعية.

بالطبع، فإن أقطار الوطن العربي، وخاصة تلك التي تطور فيها التعليم العالي خلال فترة ما بين الحربين العالميتين وبعدهما، قد تعاني هي الأخرى من المرض الحضاري - هجرة العقول – برغم التغييرات التي طرأت على هجرة العقول العربية في بداية السبعينات والتي تتمثل في اتجاه هذه الهجرة إلى البلدان النفطية داخل المنطقة.

      إن هجرة الكوادر المؤهلة، ومن ضمنها تسرب الباحثين والاختصاصيين العلميين من بعض الدول إلى البعض الآخر قد انتشرت على نطاق واسع في البلاد الرأسمالية، بدءاً من الخمسينات وازدادت في الستينات والسنين اللاحقة. وان الوزن النوعي العالي للعلماء والمهندسين والفنيين والأطباء في صفوف المهاجرين قد ساعد على أن تأخذ هذه الظاهرة تسمية "هجرة العقول".
      إلا أنه ثمة مجموعة من الأسباب الكامنة في أساس هذه العملية من الجدير الإشارة لها، منها عدم التطوير الاقتصادي والسياسي والاتجاه المتنامي نحو إشاعة العالمية على سائر مجالات الحياة الاجتماعية، وعدم انتظام تطوير الثورة العلمية التكنيكية ذات الاتجاه العالمي والتطورات الهيكلية في الاقتصاد، وكذلك توسع عمليات تعميم الإنتاج داخل بعض البلدان وتوزيع في المجال الاقتصادي العالمي وظهور الاحتكارات المتعددة الجنسية، وتقوية سيطرتها.


الجزء الأول :- عرض الظاهرة

أولاً : تعريف هجرة الأدمغة " استنزاف العقول "

"يمكن تعريف الهجرة السكانية بشكل عام بأنها شكل من أشكال التحركات السكانية من مكان إلى آخر، أفرادا وجماعات، بشكل دائم ومؤقت، للبحث عن نمط جديد من أنماط الحياة غير الذي اعتاده السكان في موطنهم الأصلي، مدفوعة بعوامل جذب كوجود الغرض المنشود في البلد المقصود، وعوامل دفع للتخلص من ظروف اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية أو أيديولوجية في البلد المهاجر منه"[2].
ونستطيع من التعريف السابق استنتاج عناصر تعريف الهجرة الثلاثة :
1.    الانتقال من مكان الإقامة المعتاد إلى مكان إقامة آخر.
2.    الأسباب الكامنة وراء هذا الانتقال أيا كانت دوافعها.
3.    شكل الهجرة ومدتها وإطارها المكاني.

      فيما يلي بعض التعريفات التي صدرت من الكتاب والباحثين والمهتمين بهذه الظاهرة.
1.  تعريف محمود احمد ومحمد حسن :- هو خروج أعداد كبيرة من أبناء الأمة للعمل بالخارج لدى مجتمعات أخرى، وهذا النزيف البشري ينطبق على كل الذين لديهم خبرة معينة، ويؤدون عملا مطلوباُ، ويحتاجهم وطنهم كالأطباء والممرضين والمهندسين والعلماء … الخ.
2.  تعريف منظمة اليونسكو " UNESCO " :- إن النزيف البشري يعتبر شكل من أشكال التبادل العلمي الشاذ أو غير السليم بين الدول، وهذا النوع من التبادل يتميز بأنه تدفق لهجرة العلماء في اتجاه واحد في صالح أكثر الدول تقدماً
3.  تعريف معهد اليونيتار " UNITAR " :- معهد التدريب والبحث التابع للأمم المتحدة يعتبر أكثر التعريفات شمولاً ومؤاده مجموعة من الحقائق العلمية التي عكستها أحدث إحصائيات الهجرة :-
·        يوجد تدفق كبير لأصحاب المهارات وذوي التدريب العالي من الدول النامية إلى المتقدمة
·        التخصصات الغالبة في هذا النوع من الهجرة هي من المهندسين والعاملين في ميدان الطب والعلماء
·        كلما ارتفعت درجة المهارة وازداد التدريب بين تلك النوعيات، كلما كانت هجرتهم أكثر احتمالاً.
4.  تعريف محمد عبد العليم مرسي :- هي غياب العناصر البشرية الحيوية اللازمة والمطلوبة لتحقيق عمليات التنمية الشاملة لمجتمع من المجتمعات في فترة زمنية محددة من  حياته، هذا الغياب قد يكون بالهجرة أصلا، أو بالامتناع من العود بعد قضاء فترة معينة بالخارج بقصد الدراسة أو التدريب طالت هذه الفترة أو قصرت، وهذا النزيف تندرج تحته الكفايات العقلية النادرة والخبرات العلمية العالية المستوى، والمهارات الدقيقة التي يشكل غيابها خطورة على حياة المجتمع

ثانيا :- الجذور التاريخية لهجرة الأدمغة البشرية

        إن ظاهرة هجرة العلماء وتنقلهم بين مختلف أرجاء العالم، ليست وليدة هذا العصر، بل أن بعض العلماء يرجع بها إلى ما قبل التاريخ البشري، فمثلاً نجد العالم "ديديجار Didijar "، يقول إن أول تسجيل لظاهرة هجرة العقول في التاريخ البشري قد حدث عندما ارتحل عدد من العلماء في العصر البلطمي من أثينا واستقر في الإسكندرية، التي كانت مركز شيع للمعرفة آنذاك.
        أما العالم " لاكشمانا Lakshmana " فيحدد تاريخ الهجرات للذين كانوا يرتحلون في طلب العلم بتاريخ عام 388 ق. م.، حين أنشأ أفلاطون أكاديميته، وأيضاً صار على نفس الدرب أرسطو في عام 355 ق. م.
        وإذا انتقلنا عبر العصور إلى بلاد الإسلام فسنلمح صورة زاهية لاهتمام الخلفاء والأمراء بالعلم وأهله، فبجانب بحث المسلمين عن العلوم من مصادرها الأصلية وترجمتهم لها، نجد أنهم قد فتحوا الأبواب أمام العلماء من جميع العالم المعروف آنذاك يحضروا إلى بلادهم، ويقيموا بينهم. بل ويزاولون مهنهم هناك.
        وعند الحديث عن العصور الوسطى فقد عملت أوروبا  خلاله على منع محبي المعرفة من الهجرة خارج حدود جامعاتهم، وكان ذلك منذ حركة ظهور الجامعات الأوروبية والسبب هو خشيتها من تنقل أساتذتهم وعلمائه، ونتيجة لهذا الخوف فقد اشترطت الجامعات عند تعاقداتها مع الأساتذة العاملين أن يؤدوا يمين يقسمون فيه بأنهم لن يغادروا جامعاتهم للعمل في أماكن أخرى.
"وعندما اكتشفت الأمريكيتان اندفعت أعداد غفيرة من أبناء أوروبا إلى هذا العالم الجديد لتعميره، وإن كانت نسبة أصحاب الكفايات العالية من جملة الذاهبين لم تزد عن 1% فقط، ثم أخذت تزداد تدريجيا حتى وصلت إلى 23% في الوقت الحاضر."[3]
وعقب الحرب العالمية الثانية أنقسم العالم إلى معسكرين متصارعين، معسكر نفوذه الولايات المتحدة، والآخر يقوده الاتحاد السوفيتي (السابق)، وقد بدأ المسؤولون في هذين المعسكرين في التخطيط لاجتذاب  أصحاب العقول النادرة وذوي الكفايات العالية للعمل في مراكز البحوث فيهما.
      وأمام هذه الظاهرة فقد وقفت الدول مواقف متباينة خاصة بعد سن قانون الهجرة الأمريكي 1965 ف، فقد انتقدت الدول المتضررة الأمر بشدة عن طريق الكتاب والمهتمين بشؤون التنمية. وشاركهم في ذلك بعض الكتاب الموضوعين من دول العالم المتقدم الذين بدءوا ينتقدون سياسات بلدانهم التي لم تضع في الحسبان إلا تقدم شعوبها ورفاهيتها فحسب متناسية مصالح الشعوب الأخرى التي تعمل تلك الهجرة على تأخرها وتخلفها أكثر وأكثر وقد نجحت هذه الانتقادات في إدخال هذه القضية لعرضها في قاعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في 17/12/1968 ف، حيث تبنت الجمعية مشروع قرار بعنوان هجرة المدربين والأفراد العلميين على كل المستويات من الدول النامية، أسبابها، النتائج المترتبة عليها، ومقترحات عملية للعلاج من أثارها.
وفي أثناء جلسات النقاش الحامية فقد ردت الدول المتقدمة على الانتقادات التي وجهت إليها بأن أصحاب الكفايات النادرة يغادرون بلادهم الأصلية ويحضرون إلى حيث يعملون طواعية واختياراً، وإن أبسط مبادئ حقوق الإنسان تعطي الفرد الحق في التنقل بين الدول بكل حرية، ثم هاجمت هذه الدول المتقدمة دول العالم الثالث وطالبتها بالقيام بعمل إيجابي على أراضيها، بحيث تتحسن ظروفها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الأمر الذي يهيئ المناخ لعودة العقول إلى موطنها الأصلي.

ثالثا : أنواع وأنماط هجرة الأدمغة

1-   أنواع الهجرة :-
1.1 هجرة قديمة : وهي حركات سكانية كبرى تمت في وقت مبكر والسبب الرئيسي لهذه الهجرة يتمثل في التغيرات المناخية التي كان من نتيجتها تكرار فترات الجفاف النسبية.
2.1 هجرة حديثة : وتنقسم إلى مرحلتين :-

·        المرحلة الأولى :- وهي الممتدة من الاستكشافات الجغرافية والاستعمار حتى نهاية القرن السابع عشر، ولم تشهد هذه الفترة إلا القليل من الهجرات الدولية وهذا راجع إلى عامل المسافة.
·   المرحلة الثانية :- وهي الممتدة بين القرن الثامن عشر وما بعده، حيث بدأت الثورة الصناعية في أوروبا، وأزداد تدفق الهجرات من الدول النامية إلى الدول المتقدمة

3.1 - هجرة دولية :- وهي انتقال السكان في منطقة جغرافية لأخرى عبر الحدود الدولية.
4.1 - هجرة داخلية :- وهي انتقال السكان من الأرياف إلى المدن.
5.1 - الهجرة الاختيارية :- وتتم بمبادرة فردية من الأشخاص
6.1 - الهجرة الإجبارية :- وهي التي تتم بواسطة قوة خارجية تدفع الأفراد إلى الهجرة.
7.1 - هجرة مؤقتة :- بقصد الزيادة أو إنجاز بعض الأعمال.
8.1 – هجرة دائمة :- وفيها ينتقل الفرد إلى بيئة أخرى غير بيئته الأصلية بشكل دائم.

2-   أنماط الهجرة " نزيف العقول "
2.1 - النزيف الخارجي :- ويقصد به الهجرة إلى أوطان أخرى
2.2 - النزيف الداخلي :- وهو أن يعيش العالم أو صاحب الفكرة ذهنياً في بيئة أخرى غير بيئته كأن : ينحصر اهتمامه  في علوم غير مستخدمة في بلده، أو ينشر أبحاث بلغات لا يعرفها معظم الباحثين في وطنه
3.2 - النزيف الأساسي :- وفيه يتم هدر طاقات الأفراد بسبب إحباطهم داخليا، وقد ينصرف عن الاشتغال بتخصصه والانخراط في أعمال أخرى

رابعا : أهمية الكفايات وكلفة هجرتها

1.4- أهمية الكفايات العلمية في عملية التنمية
تشكل الثروة العلمية البشرية لكل أمة عنصراً أساسياً وهاماً في تقدمها. كما تلعب هذه الثروة دوراً أساسياً في عملية التنمية وخاصة على المستويات التالية :-
1.1.4 - العمل على إجراء البحوث العملية النظرية الموجهة
2.1.4 – العمل إجراء البحوث التطبيقية ذات الأهمية الاقتصادية المباشرة
3.1.4 - العمل على مساعدة المخططين التنمويين على تنفيذ الخطة التنموية وتجاوز الإطار التقليدي لها وتقديم الحلول العلمية لتفاصيلها.
كما أن التطوير سواء كان صناعياً أم زراعياً، فهو يرتبط إلى حد بعيد بإمكانيات اليد العاملة ودرجة مهارتها، ثم بالإمكانيات البشرية العلمية عالية المستوى والقادرة على البحث العلمي الضروري للاستيعاب والتكييف والابتكار

2.4- كلفة هجرة العقول البشرية :-
اختلفت الآراء في تقدير الخسائر بالنسبة للدول النامية، والأرباح للدول المتقدمة، نتيجة هجرة الكفايات، وقد قدمت دراستان لتقدير الكلفة استناداً إلى :-
1.2.4 – الأرباح التي حصلت عليها الدول المتقدمة من الهجرة.
2.2.4 – الفوائد التي خسرتها الدول النامية جراء النقل المعاكس للتكنولوجية.
3.2.4 – الأموال المنقولة إلى الدول المتقدمة جراء هذه الهجرة

وقد قدرت هذه الدراسات مجموع الأرباح على النحو التالي:-

·        في الولايات المتحدة الأمريكية في الفترة "1961 – 1972" بحدود 30 مليار دولار
·        في كندا بلغت الأرباح لنفس الفترة حوالي 10 مليار دولار
·        أما في بريطانيا فقد بلغت لنفس الفترة حوالي 3.5 مليار دولار
·   أما رأس المال الكلي المنقول من الدول النامية إلى الولايات المتحدة وكندا وبريطانيا من جراء الهجرة لنفس الفترة فقد قدر بأكثر من 50 مليار دولار موزعة حسب المناطق الجغرافية التالية :-
o       أسيا 65 %
o       أفريقيا 6%
o       أمريكيا اللاتينية 17%
o       مناطق أخرى 12%

ويقدر الخبراء عدد أصحاب الطاقات البشرية المهاجرين من الدول النامية إلى الصناعية في السبعينات والثمانينات بحوالي 100 ألف مهاجر سنويا

·   أما خسارة الدول النامية فقد كانت كبيرة بسبب ازدياد أعداد المهاجرين منهما خاصة في فترة الثمانينات، التي شهدت اضطرابات واسعة -  الكثير من دول العالم الثالث – وربما كان من أهم الخسائر المنظورة، ما تنفقه الدول النامية على أبنائها في سبيل تعليمهم راجية أن يعود عليها هذا الإنفاق بما فيه خير الدولة والمجتمع، ومنها فإن المضار التي تلحق بالأقطار المصدرة للكفاءات العلمية والفنية تأتي من مصدرين هما :-

1-   فقدان الاستثمارات في التعليم مضافاً إليها ممتلكات المهاجرين الخاصة
2- ضياع نسبة كبيرة من رأس المال البشري، وبالتالي إضعاف القوى المنتجة في المجتمع، وقدرتها الذاتية على القيادة والتنظيم والإدارة.

·   ومن الأمثلة الحية على هذه الخسارة الدراسة التي أجرتها حكومة الولايات المتحدة والتي قدرت من خلالها أنها وفرت 883 مليون دولار في عام 1982ف في تكاليف التعليم باستقدامها العقول المهاجرة، في حين خسرت البلدان النامية المصدرة لها 32 مليون دولار تكلفة تعليمهم.
·   ولكي نلمس مقدار الخسارة في البلدان النامية بشكل عام. والدول العربية بشكل خاص جراء هذه الهجرة نستعرض في الجدول التالي إحصاء أولي للعلماء والتكنولوجيين العرب في أهم جامعات الولايات المتحدة وكندا أجرتها شبكة العلماء والتكنولوجيين العرب في الخارج ( ASTA ) لعام 1995ف.

جدول رقم (1) يبين توزيع تخصص العلماء والتكنولوجيين العرب في أهم جامعات الولايات المتحدة وكندا للعام 1995 ف.
الاختصاص
عدد الجامعات
عدد الأساتذة العرب
الهندسة والعلوم التطبيقية
472
384
العلوم الحياتية والزراعية
864
179
الصحة
81
52
العلوم الطبيعية والرياضة
289
125
المصدر :………………… " اقتصاديات التعليم "، ………………………….

خامساً : مواقف بعض الدول النامية من هجرة الكفايات

        تنوعت  مواقف الدول النامية من هجرة الكفايات وسنحاول فيما يلي عرض بعض من هذه المواقف :-
1.5 - التشجيع وسياسة الباب المفتوح :
 ومثال على ذلك فقد شجعت الباكستان عملية الهجرة رغم كبر حجمها، حيث بلغت من 50 – 70 % من مجموع الأطباء المتخرجين سنوياً، وكذلك الحال بالنسبة للمهندسين والعلماء وذلك للأسباب التالية :-

1.1.5 –إتاحة الفرصة للتخلص من الأعداد الفائضة من الخرجين نتيجة البطالة.
2.1.5 – الحصول على العملة الصعبة المحولة إلى الوطن من المهاجرين لذويهم
2.5 – عدم الممانعة على وضع إجراءات لتسهيل عودة المهاجرين :
        ومن الأمثلة على هذا الموقف ما جري في الهند، حيث عملت على تكوين لجان للاتصال بالعلماء الهنود المهاجرين، حيث ثم الاتصال ب (1487) واختير من بينهم (610) عالما، وبعد سنتين تم منح (450) عالما من بين هؤلاء وظائف في الهند، إلا انه لم يرجع منهم سوى (12) عالما.

3.5 – إجراءات تشجيعية لعودة الكفايات إلى الوطن :
        ونلحظ مثل هذه الإجراءات في كل من ليبيا، والعرق، وسوريا والتي تمثلت في :-
1.3.5 – العمل على إعطاء رواتب مجزية
2.3.5 – تأمين بطاقة سفر للمهاجر وعائلته
3.3.5 – تأمين قطعة أرض وسلفة للمساعدة على البناء
4.3.5 – وظيفة في إحدى الجامعات أو في أحد مراكز البحث العلمي مع احتساب الخدمة السابقة في الخارج

4.5 –وضع اليد على أملاك العلماء المهاجرين :
        وهذا ما قامت به بعض الدول العربية، وهي بهذا العمل والإجراء الخاطئ قد أجبرت هذا المهاجر على البقاء بعيدا عن وطنه

سادسا : السمات الأساسية لهجرة العقول البشرية

1.6 - عقول جامعية وكفايات علمية
        أي أن الهجرة تستنزف أعلى مستويات المهارة العلمية والتقنية، وأن أكثر الفئات المهنية هجرة هم المهندسون والأطباء والعلماء، وإن احتمال الهجرة يزداد بازدياد الدرجات الجامعية ومستوى التدريب.

2.6 – زيادة مطردة لهجرة المهنيين والفنيين
يبين جدول رقم (2) الذي نشرته جمعية العلوم التقنية مدى تفاقم مشكلة العقول المهاجرة في غضون 3 سنوات 1967-1970 ف، حيث بلغ مجموع المهاجرين 33446، بينهم 24535  علماء ومهندسين , و8911 أطباء.
 جدول رقم (2) عدد العقول المهاجرة من علماء ومهندسين وأطباء
السنة المالية
عدد المهاجرين
العلماء والمهندسين
الأطباء
30/6/1967 – 30/6/1968
12973
3000
30/6/1968 – 30/6/1969
10225
2756
30/6/1969 – 30/6/1970
1337
3155
المجموع
24535
8911
المصدر : ……………….. "اقتصاديات التعليم" …………………..

        يبين جدول رقم (3) توزيع المهاجرين العرب من العلماء والمهندسين إلى الولايات المتحدة حسب المولد والمهنة في الفترة 1966 – 1977ف، حيث شكل المهاجرون من العلماء والمهندسين من الأقطار العربية حوالي 5% من مجموع المهاجرين من العلماء والمهندسين الذين دخلوا الولايات المتحدة أثناء هذه الفترة، ويتألف أكثر من 60% من هؤلاء المهاجرين من المهندسين و25% من علماء الطبيعيات، والباقون من علماء الاجتماع.

جدول رقم (3) توزيع الأدمغة العربية المهاجرة إلى الولايات المتحدة حسب المولد والمهنة 1966 – 1977
بلد المولد
كل العلماء والمهندسين
المهندسون
علماء الطبيعيات
علماء الاجتماع
الجزائر
48
35
7
6
مصر
3310
2113
1039
158
ليبيا
19
13
6
0
المغرب
90
56
27
7
السودان
45
32
10
3
تونس
43
24
6
13
شبة الجزيرة العربية
15
14
0
1
العراق
615
432
150
33
الأردن
323
235
68
20
الكويت
5
4
1
0
لبنان
623
492
80
51
عمان
1
1
0
0
فلسطين
265
190
57
18
قطر
3
2
1
0
الجمهورية العربية السورية
380
287
58
36
اليمن
13
9
3
1
المجموع
5798
3939
1513
347
المصدر : رياض عواد، "هجرة العقول"، دار الملتقى للنشر، ليماسول – قبرص ص. ب . :6527،  1995ف

        تعطى قراءة الأرقام للجدول رقم (4) الزيادة المطردة لهجرات نوعيات من العقول المهاجرة، كما يعطي الدرجة الحاصل عليها المهاجر المهني الأمريكي من أصل عربي، حيث بين الجدول أن من بين عدد 477 مهني أمريكي من أصل عربي بينهم 51.4% دكتوراه الفلسفة ووصلت نسبة دكتوراه الطب إلى 21.8% وكانت نسبة 25.8% بكالوريوس وماجستير ومؤهلات أخرى .

جدول رقم ( 4 ) أعداد ونسب المهاجرين المهنيين الأمريكيين من أصل عربي موزعين حسب المؤهل الدرجة العلمية
الدرجة
العدد
النسبة المئوية
بكالوريوس
28
5.9%
ماجستير
52
10.9%
دكتوراه الفلسفة
245
51.4%
دكتوراه الطب
104
21.8%
أخرى
26
5.5%
غير معروف
22
4.5%
المجموع
477
100%
المصدر : ………………….."اقتصاديات التعليم"، ……………………………

3.6 – هجرة باتجاه واحد
        من الملاحظ أن الهجرة من الأقطار المتقدمة إلى الأقطار الأكثر تقدماً، تسير في اتجاهين حيث نجد أن دولاً مثل بريطانيا، وسويسرا، وكندا، واستراليا، تصدر عقولاً وكفايات إلى الولايات المتحدة، ثم تستقبل مواهب ومهارات فنية من بلدان أخرى، وخاصة النامية، بينما نجد أن حركة الهجرة من البلاد العربية تمضي في اتجاه واحد، فالعقول التي تستنزف لا تعوض.

4.6 – هجرة مدروسة وانتقائية :
        يلاحظ أن الدول المستقبلة لا تستقبل إلا أنواع محددة من المهاجرين فالهجرة مدروسة وهادفة وانتقائية، وليس هجرة عشوائية، فهم يستقبلون المهاجر الذي يتوافق مع خططهم وبرامجهم التنموية يقدمون له التسهيلات المالية ووسائل الجذب المادية والمعنوية، كيف لا وهو القادم للمساهمة في تطوير خططهم في مختلف المجالات.
5.6 – فئات الأقطار العربية المصدرة للهجرة :-
        يمكن تقسيم البلاد العربية من حيث تصدير المهاجرين المهنيين والفنيين إلى ثلاث فئات :-

1.5.6 – أقطار ذات هجرة كبيرة :
وتشمل مصر، لبنان، سوريا، العراق، الأردن، فلسطين.

2.5.6 – أقطار ذات هجرة متوسطة :
وتتضمن أقطار المغرب العربي: تونس، الجزائر المغرب.

3.5.6 - أقطار ذات هجرة ضئيلة :
                وتشمل أقطار الجزيرة العربية والخليج العربي

6.6 – فئات البلدان المستقبلة للهجرة :
                يمكن أن نستخلص مما سبق دراسته أن الولايات المتحدة تحتل المرتبة الأولى في استقبال المهاجرين، تليها كندا التي ما تزال تستقطب الأعداد الكبيرة من المهاجرين المتخصصين، ثم تأتي فرنسا في المرتبة الثالثة، ومن ثم بريطانيا.

سابعاً : مشكلة النزيف البشري بين المضار والفوائد
        باتت خطوة مشكلة هجرة العلماء من أوطانهم مسلمة من مسلمات العصر الحديث، بعد أن أعترف الجمع بآثارها الضارة التي أدت إلى تعطيل خطط التنمية بسبب النقص في الكوادر البشرية المؤهلة ، وتتلخص أوجه خطورة المشكلة فيما يلي :-

1.7 - توسيع الفجوة بين الدول الغنية والدول الفقيرة :-
ثبت على المستوي الدولي أن هجرة الكفايات تزيد من الفجوة بين دول العالم المتقدمة التي تزداد قوة وثراء وتقدماً، ودول العالم المتخلف والتي تزداد ضعفاً وفقراً وتخلفاً وذلك باعتراف المسؤولين الأمريكيين (( مسنز والترمونيل)) الذي كان عضواً في لجنة شكلها الكونجرس الأمريكي لبحث هذه الظاهرة، حيث قال " أن النزيف البشري هو أحد من العوامل التي تعمل على زيادة الفجوة بين الدول الغنية، والدول الفقيرة وفي بعض الحالات أن هذا العامل قد الغي تماماً أثار أية فائدة كان من الممكن أن تعود على بعض الدول من برامج المعونة الأمريكية.

2.7 - انخفاض مستويات المعيشة في الدول النامية :-
إن المهاجر قد يحقق ربحاً شخصياً لنفسه ولأسرته إلا أن فقدانه في بلده ينعكس سلباً على المواطنين، وفي هذا المجال يقول الكاتبان الكنديان ( جروبل وسكوت) grubelg scoott إن خطورة هجرة أصحاب الكفايات بآثارها السلبية على الناتج القومي للمجتمعات الخاسرة ، لا يتوقف عند انخفاض مستوى المعيشة للمجتمع فحسب، وإنما قد يصل إلى الجوانب العسكرية التي تتأثر بدورها بذلك لانخفاض مستوى المعيشة للمجتمع فحسب، وإنما قد يصل إلى الجوانب العسكرية التي تتأثر بدورها بذلك الانخفاض، حيث ستنقل نسبة الضرائب المحصلة من المواطنين للدفاع عن بلدهم، ويلخصان القول إن تلك الخسارة لا يمكن تعويضها بأي حال من الأحوال.

3.7- القضاء على الأمل في التقدم :-
        إن هجرة العلماء الأكفاء من بلادهم النامية إلى البلاد المتقدمة، يزيد من فرصة رقي وتقدم هذه الأخيرة، بينما يقضى على بارقة الأمل في بلده الأصلي خاصة وأن الاستعمار قد خلف على البلاد التي تركها أنواعاً من القيادات وإطراء من الوظائف ترتبط به ارتباطاً وثيقا ، ففي ميدان التعليم مثلاً نجد أن الشهادات قد قننت على أساس مستويات وضعت في بلاد متقدمة، لا على أساس حاجات المجتمعات النامية الأمر الذي يجعلهم متوافقين عند تخرجهم مع سوق العمل في تلك البلاد والمتقدمة بسهولة ويسر، في الوقت الذي يهربون فيه من تخلف مجتمعاتهم الأصلية، وهذا بحد ذاته يقضي على الأمل في تحسين المستويات المختلفة في مجتمعاتهم صحية كانت أم علمية أم اقتصادية.

4.7 - انخفاض المستوى الصحي في دول العالم النامي، وارتفاعه في دول العالم المتقدم :-
        يشير "اوسكار غيش، ومارتن غودفوى" إلى أن كارثة الفقراء في العالم الثالث ستظل مستمرة إلى أمد بعيد فيما يتعلق بصحته، ففي بلدانهم الأصلية نجد الأطباء يميلون إلى التجمع في المدن الكبيرة، تاركين مناطق الأرياف وتجمعات الفقراء، وحين تتاح لهم الفرص يهاجرون إلى الدول الأكثر غني وتقدماً، الأمر الذي يؤدي بالتالي إلى انخفاض المستوي الصحي في العالم النامي، وارتفاعه في دول العالم المتقدم.

ولتوضيح خطورة الأمر نورد الأمثلة التالية :-
1.4.7- نسبة الأطباء إلى المواطنين في البلاد المتقدمة 500:1 بينما نجدها في المجتمع الباكستاني على وجه العموم 7400:1
أما في ريف الباكستان فتصل 2500:1
وفي بلد مسلم كا اليمن 40000:1
2.4.7- أن الدول الأوربية التي تفقد بعض عقولها البشرية تعوضهم من الدول النامية
3.4.7- في عام 1976ف هاجر 60% من أطباء السودان

5.7 - إرباك خطط البعثات الدراسية لدى الدول النامية:
تحاول الدول النامية جاهدة أن تلحق بمركب الدول المتقدمة, فتضع الخطط التنموية الشاملة, وتبعث بعض العناصر البشرية للإطلاع والدراسة على أمل أن يعودوا إليها ويساهموا في دفع عجلة التقدم, ولكن للأسف فكثير من هؤلاء لا يعودون إلى الوطن مما يؤدي إلى إرباك خطط التنمية.
أي فالمشكلة هنا لا تكمن في أولئك الذين يعلنون عن نياتهم مسبقاّ بأنهم سيهاجرون ولن يعودوا, ولكن المشكلة تكمن في أولئك الممتنعون عن العودة لأوطانهم بعد انتهاء دراستهم.
ويقول تقرير أمريكي " حكومي " أن نسبة الممتنعين عن العودة تصل إلى 48% من مجموع الطلاب الذين ذهبوا إلى الولايات المتحدة لغرض الدراسة, ومنها فإن خطط التنمية في البلاد التي تتطلع للتقدم ستصاب بالإرباك.

6.7 - قطف القيادات الوطنية الهامة في المجالات الحيوية:
تقول إحدى المجلات الأمريكية أن الولايات المتحدة تعطي الدول النامية ملايين الدولارات كي تنمي نفسها, بينما هي باليد الأخرى تقطف البذور المحتملة لقيادات المستقبل في مجالات العلم الطبيعي والطب والخبرة الفنية, وتمضي المجلة القائلة إن هذه القيادات العلمية هي أهم وأثمن حتى من الغذاء والآلات التي تقدم لهذه البلاد على شكل برامج للمعونة.

7.7- التأثير على معنويات العلماء بالوطن:
لعل من أخطر الآثار السلبية الناتجة عن حركة هجرة أصحاب الكفايات العلمية هو الأثر السيئ التي تتركه هجرتهم على زملائهم من العلماء وذوي الكفايات النادرة الذين بقوا بالوطن ولم يهاجروا, فالباقون في الوطن يشعرون وكأنهم يعاقبون بسبب ولائهم له, فهم يعيشون في ظل ظروف اقتصادية واجتماعية وعلمية بحثية سيئة قياساّ مع زملائهم المهاجرين الذين يعملون في ظل ظروف أفضل من جميع النواحي, علمياّ ومادياّ ونفسياّ.

ومن هنا يصبح هم الذين لم يهاجروا هو الهجرة واللحاق بزملائهم والشواهد على ذلك كثيرة.

8.7 - هروب رأس المال البشري من أماكن الحاجة إليه إلى أماكن الوفرة:
وهذا الهروب يؤدي إلى نتائج عكسية في كل من البلد المصدر والبلد المستقبل لرأس المال البشري الكفؤ فالبلد المصدر يحرم أسباب الرخاء والرفاهية, والبلد المستقبل يزداد تقدماّ وثراء, وبذا تتباعد الشقة بين الاثنين, وبالتالي فالأمل في التقارب يصبح واهياّ إن لم يكن مستحيلاّ, والعكس صحيح إن حافظ البلد على رأس ماله البشري, تضافرت الجهود بين الجميع للنهوض بالوطن, وخير مثال على ذلك ما حدث في اليابان وألمانيا اللتان استطاعتا بما تبقى لديهما من قوى بشرية بعد الحرب العالمية الثانية أن تقفا على أقدامهما, بل وتتقدما لتصبحا في مقدمة العالم في مجالات التنمية الاقتصادية.

ثامنا :  الأسباب الأساسية الدافعة لهجرة الأدمغة من البلدان الإفريقية والعربية

تشير جميع الدراسات التي تناولت موضوع هجرة الأدمغة من البلدان الإفريقية والعربية إلى أن وراء هذه الهجرة مجموعة من العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية والشخصية منها[4] :

1.8 - ضعف أو انعدام القدرة على استيعاب أصحاب الكفايات في أوطانهم نتيجة لتعثر مشاريع التنمية، إذ يجد هؤلاء أنفسهم إما عاطلين عن العمل أو يضطرون للقيام بأعمال بعيدة عن اختصاصاتهم.
2.8 - ضعف المردود المادي لأصحاب الكفايات .
3.8 - اختلال التوازن في النظام التعليمي أو فقدان الارتباط بين نظم التعليم ومشاريع التنمية في أغلبية البلدان الإفريقية والعربية.
4.8 - عدم الاستقرار السياسي و الاجتماعي و الإشكاليات التي تعتري التجارب الديمقراطية الإفريقية والعربية والتي تؤدي في بعض الأحيان إلى شعور بعض أصحاب الخبرات بالغربة في أوطانهم فيلجئون إلى الهجرة سعياً وراء ظروف أكثر حرية وأوفر استقراراً.
5.8 - إلى جانب هذه الأسباب الأساسية يمكن أن توجد أسباب أخرى موضوعية أو ذاتية تدفع أصحاب الخبرات إلى الهجرة مثل البيروقراطية الإدارية، أنظمة الخدمة المدنية وبعض التشريعات والكفالات المالية التي تربك عمل أصحاب الخبرات بالإضافة إلى الأسباب الشخصية أو العائلية.

تاسعاً: الفوائد والجوانب الإيجابية في عملية النزيف البشري
ويمكن أن نلمح بعض الفوائد التي أوردها بعض الباحثين والمؤلفين والتي تعد في معظمها حول العوائد المادية والعلمية وهي :-
1.9 - استغلال إبداعات العقول لصالح البشرية جمعاء فإذا كانت هذه العقول لا تستغل في أوطانها فإن هجرة أصحابها إلى الخارج واستغلالهم لطاقاتهم وإبداعاتهم لا يقتصر خيرها عليهم فحسب، بل ينتشر ليعم دول العالم وشعوبه، في صورة { اختراعات، ابتكارات}.
2.9 - المعونات المالية التي يرسلونها للأهل في الوطن الأصلي
3.9 - مساعدة القادمين الجدد بالخارج من أبناء الوطن الأم، حيث أن وجودهم يساعد في عمليات القبول بالجامعات للمبعوثين الجدد وفي الأمور الأخرى مثل الإسكان، والتكيف مع المجتمعات الجديدة. إلا أن احتكاك الجدد بالقدامى - يزيد من ظاهرة هجرة الأدمغة - وخاصة المهاجرين منهم بعد اطلاعهم على أوضاعهم المالية والمعنوية وظروف حياتهم ومعيشتهم المستقرة يجعل منهم أكثر ميلا للبقاء وعدم العودة.
4.9 - المساهمة في حل مشكلة البطالة أو التخفيف من حدتها.
5.9 - دور المهاجرين كسفراء لبلادهم.
6.9 - ما يحملونه من فوائد وخبرات في حالة العودة للوطن الأم.

عاشراً : مواجهة ظاهرة الهجرة

من يمعن النظر في المحاولات العربية لمواجهة هجرة الأدمغة العربية يجدها ذات شقين يسعى أولهما إلى استرجاع هذه الأدمغة المهاجرة بينما يتجه الثاني إلى الاستفادة من هذه العقول في المهجر. ويبدو أن الشق الأول تعامل مع هذه الظاهرة على أنها ذات اثر سلبي اكبر مما يتطلب إعادة هذه العقول إلى مواطنها لدفع عمليات البحث والتأليف وقيادة التنمية , في حين إن الشق الثاني قدر إيجابية الظاهرة فسعى إلى الاستفادة منها.
ومن المعالجات التي حدثت في الشق الأول دور "ليبيا" في قانون تشجيع الخبرات لعام 1975 ف، استهدفت به استقطاب أصحاب الكفايات والخبرات العربية العلمية والفنية إلى ليبيا لأغراض التنمية الاقتصادية والاجتماعية في الوطن العربي وفسر القانون معنى الهجرة إلى "ليبيا" بالإقامة الدائمة فيها بغية الحصول على الجنسية العربية الليبية ولهذا الغرض أنشأت ليبيا "معهد الإنماء العربي" ، ومحاولات جرت في "العراق" في أوائل السبعينات هدفت إلى استعادة الأدمغة العربية المهاجرة مثل (مؤسسة الحسن بن الهيثم) لتدريس العلوم والتقانة[5]، وكذلك "الأردن بتأسيس الجمعية الملكية بالأردن، كما جرت في الجزائر محاولات من نفس النوع. وأصدرت "سوريا" قانون سنة 1995 ف بحضر هجرة الكفايات والخبرات الفنية وخاصة فئة المهندسين كما نظمت حملة لاستعادة الخبراء السوريين المقيمين في الخارج،اما في " الكويت" فكانت الأولوية للكفايات : حيث قررت الكويت منح الجنسية الكويتية لأصحاب الخبرات والكفايات العلمية العربية العالية والعاملة في حدود المنطقة العربية، أما "مصر" فتحاول منع سفر الكفايات، حيث تسعى في الوقت الحاضر في حدود إمكاناتها وظروفها إلى استعادة الخبرات المصرية العاملة في الخارج، و"الجزائر" ترحب بالكفايات وتسعى منذ استقلالها إلى جذب الكفايات الجزائرية والعربية  العاملة بالخارج وقد اتخذت بهذا الشأن بعض الإجراءات. هذا بالإضافة إلى ما تحقق تلقائيا من عودة بعض العقول عقب هزيمة يونيو 1967ف وفى مرحلة المقاومة اللبنانية وذلك لشعورهم بالخطر. ويلاحظ إن هذه المحاولات استطاعت أن تستقطب هذه العقول في مجالات عديدة لبحوث العلوم والتقانة. ولكن يحسب عليها تركيزها على الجوانب السلبية للهجرة وإهمال الجوانب الإيجابية. وهذا يفسر عدم وجود خطط وسياسات متكاملة للتعامل مع الظاهرة.

وأما المعالجات من الشق الثاني فمنها محاولات ربط شبكات العلماء العرب في الخارج بنواة في الوطن العربي كالبرنامج الخاص بالعلماء المهاجرين من تونس المعروف بالكونسورتيوم العلمي, بجانب نشاط عدد من الجمعيات بالخارج كجمعية العلماء التقانيين في الخارج وجمعية الخريجين العرب التي تأسست في أمريكا عقب هزيمة يونيو 1967ف فضلا عن وجود البرنامج اللبناني المعنى باستخدام اللبنانيين المهاجرين لتقديم الدعم التقني للدولة.
إن الأرقام توضح إن ما خرجته الجامعات في البلدان النامية بين عامي 1980 - 1987م حوالي 23 مليون شخص منهم ما يقدر بعدد 8.3 ملـيون في ميادين الـعلوم والـتقانة (المعرضون الرئيسيون لهجرة الأدمغة) وان التدفق إلى الخارج يعادل 10% من نتاج جامعات العالم الثالث في حقلي العلوم والتقانة. وهو ما يوضح القلق غير المبرر إزاء هذه الهجرة خاصة إذا أخذنا في الاعتبار ما أقامته الجاليات العربية الكبيرة في أوروبا وكندا وأمريكا من بنى تحتية ثقافية واقتصادية واجتماعية فضلا عن وجودها في مناخ ثقافي محفز إذ يتوقع أن يتجاوز إنتاجها الفكري هناك إنتاج البلدان العربية قاطبة.

بعد كل الذي تقدم فهناك سؤال يطرح نفسه كيف يمكن معالجة قضية هجرة العقول والكفايات العلمية بشكل سليم وفعال.

وقد حاول كثير من الباحثين وضع تصورات وحلول منطلقين من فهمهم للمشكلة وقناعتهم حولها فالذي يقتنع بحق الهجرة يرى أنه من الضروري أن نرضى بالأمر الواقع ونحاول استثمار ما هو قائم وتوظيف هذه الظاهرة لصالح أوضاع العالم العربي ومن مقترحاتهم :-
1.1.10 - تأسيس شبكة العلماء والتكنولوجيا العربية في الخارج التي اتخذت "عمان" مقراً لها وقد عقد المؤتمر الأول للعلماء العرب في الفترة بين 17 – 19 /8/1990 ف ، وسجلت الشبكة الأولى في الولايات المتحدة ولها مجلس أمناء مكون من 9 أعضاء وتهدف الشبكة إلى أن تكون مركزاً مرجعياً لرصد الكفايات العلمية والتكنولوجية في العالم. وتكمن قدرة هذا المركز في تزويد الدول العربية بما تحتاجه من أصحاب الخبرات والاختصاص والتنسيق بين المراكز العلمية في تلك الدول والمراكز العلمية والتكنولوجية الذائعة الصيت التي تكثر فيها الأدمغة العربية المهاجرة.
2.1.10 - الخبرة المصرية في تنفيذ مشروع نقل المعرفة عن طريق المواطنين المغتربين لتعويض الخسارة من ظاهرة هجرة عقولها، وقد أنشئت في مصر وزارة لرعاية المهاجرين المصريين في الخارج والنظرة الواقعية لهذا المشروع تقوم على أن رسوخ وجود العقول المصرية بالخارج وتعاظم مكانتها وخبراتها بالشروع بالنقل العكسي للتكنولوجيا وهي صيغة إيجابية للتعامل مع تلك الظاهرة المعقدة.

هذا وقد بذلت بعض الدول العربية جهودا لاستعادة بعض العناصر المتميزة من الكفايات المهاجرة. إلا أن هذه الجهود الرسمية العربية عبر المسالك المذكورة العربية لم تحقق كثيراً من النتائج المرجوة منها وذلك للأسباب التالية :-

1.2.10 - خشية العودة النهائية
2.2.10 - عمق امتزاج العديد من هؤلاء المهاجرين بالمجتمعات الجديدة
3.2.10 - عدم تحرك حكومات البلدان العربية في إطار جماعي كجامعة الدول العربية، لدعم المهاجرين العرب وتحسس قضاياهم ومشاكلهم.
4.2.10 - عدم عمل هذه الدول والحكومات على توفير المتطلبات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية اللازمة لخلق بيئة ملائمة لتطوير التعليم والبحث العلمي.

وهناك أراء أخرى رأت أن تواجه القضية من خلال خطط وحلول متفاوتة المدى { قريبة، ومتوسطة، وبعيدة الأجل}
1.3.10- حلول قريبة المدى :- بين عام أو أكثر بقليل
1.1.3.10 – أن تتبنى الدول العربية مجتمعة ميثاقاً غربياً مشتركاً بغية توظيف العقول والكفايات العلمية والفنية العربية المقيمة والمهاجرة توظيفاً إيجابياً.
2.1.3.10 – توجيه نداء مشترك – ضمن إطار جامعة الدول العربية – إلى المواهب والكفايات المهاجرة للعودة إلى الوطن والمساهمة في تنميته وتطويره.
3.1.3.10 – تطوير أنظمة الأجور والرواتب المتعلقة بالمهنيين والفنيين.
4.1.3.10 – منح الحرية الكاملة للمواطنين العرب المؤهلين والمدربين للتنقل والسفر والعمل في أي قطر عربي دون قيود وشروط معينة.
5.1.3.10 - إنشاء مكاتب توظيف خاصة بأصحاب الكفايات والمهارات داخل كل قطر عربي وفي البلدان المتقدمة حيث يتواجد العلماء والخبراء والطلاب العرب.


الجزء الثاني : تحليل الظاهرة
أولا : تحليل الوضع التنموي العربي كواقع وآفاق للتنمية الإنسانية في العالم العربي

تشير الإحصاءات المأخوذة من الدراسات التي قامت بها جامعة الدول العربية ومنظمة العمل العربية ومنظمة اليونسكو وبعض المنظمات الدولية والإقليمية المهتمة بهذه الظاهرة إلى الحقائق التالية:

·               يساهم الوطن العربي في ثلث هجرة الكفايات من البلدان النامية.
·     أن 50%من الأطباء و 23% من المهندسين و 15% من العلماء من مجموع الكفايات العربية المتخرجة يهاجرون متوجهين إلى أوروبا والولايات المتحدة، وكندا بوجه خاص.
·               أن 54% من الطلاب العرب الذين يدرسون في الخارج لا يعودون إلى بلدانهم.
·               يشكل الأطباء العرب العاملون في بريطانيا حوالي 34% من مجموع الأطباء العاملين فيها.
·               أن ثلاث دول غربية غنية هي الولايات المتحدة وكندا وبريطانيا تصطاد 75% من المهاجرين العرب.
·     بلغت الخسائر التي منيت بها البلدان العربية من جراء هجرة الأدمغة العربية 11 مليار دولار في عقد السبعينيات.

وقد تزايدت هجرة العقول العربية في العقود الثلاثة الأخيرة لأسباب كثيرة منها عدم توفير الظروف المادية والاجتماعية التي تؤمن مستوى لائقاً من العيش بالإضافة إلى ضعف الاهتمام بالبحث العلمي، وعدم وجود مراكز البحث العلمي المطلوبة؛ إلى جانب المشاكل السياسية والاجتماعية، وعدم الاستقرار التي تعاني منها أقطار عربية مختلفة، وقدرت خسارة العرب بسبب هجرة العقول العربية بـ 1.57 مليار دولار سنوياً كما ورد في دراسة حديثة صدرت في دمشق.

"ومما يلفت النظر في الوطن العربي أنه مع ازدياد معدلات هجرة العقول العربية إلى الغرب يزداد اعتماد غالبية البلدان العربية على الكفايات الغربية في ميادين شتى بتكلفة اقتصادية مرتفعة ومبالغ مبالغ فيها في كثير الأحيان. وبعبارة أخرى فإن البلدان العربية تتحمل بسبب هذه الهجرة خسارة مزدوجة لضياع ما أنفقته من أموال وجهود في تعليم وإعداد الكفايات العربية المهاجرة، ومواجهة نقص الكفايات وسوء استغلالها والإفادة منها عن طريق استيراد الكفايات الغربية بتكلفة كبيرة"[6].

 ويرى تقرير التنمية الإنسانية العربية لعام [7]2002 ف الصادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، أن عدد الأميين العرب من بين البالغين يصل إلى حوالي 65 مليون إنسان· وهم يشكلون حوالي 24 % من إجمالي عدد السكان البالغ 273 مليون نسمة، إلا أن هذه النسبة سترتفع بالطبع لو قارناها على مستوى عدد البالغين فقط· وأن النساء يشكلن ثلثي هذا العدد وقد يرجع ذلك بالدرجة الأولى إلى ازدياد عدد النساء ذاته بالنسبة للرجال· ويرى التقرير أن معدلات الأمية هذه تزيد على معدلاتها في بلدان كثيرة أفقر من البلدان العربية ذات معدلات الأمية العالية· إذ يوجد حالياً حوالى 10 ملايين طفل تتراوح أعمارهم بين 6 سنوات إلى 15 سنة غير ملتحقين بالمدارس، وإذا استمر المعدل بهذه الصورة فقد تصل النسبة إلى 40 % في عام 2015 ف ويشير التقرير إلى أن نسبة البطالة في العالم العربي تصل إلى حوالى 15 % وهي من أعلى النسب العالمية· وبشكل عام لا يزيد ما يستثمره العالم العربي سنوياً في مجال البحث العلمي والتطوير على 0,5 % من الناتج المحلي الإجمالي، ولا تزيد نسبة السكان المستخدمين للإنترنت على 0,6 % من إجمالي عدد السكان، ولا يزيد عدد المستخدمين للحاسب الشخصي على 1,2 % من إجمالي عدد السكان، وتعتبر هذه النسب متدنية للغاية حتى بالنسبة لكثير من الدول النامية والفقيرة· أما بالنسبة للحرمان واللامساواة في القدرات والفرص، أي بمعنى آخر عدم توفر الجو الذي يضمن تكافؤ الفرص والعدالة الاجتماعية، فهو أكثر استشراءً وأشد خطورة من فقر الدخل أو اللامساواة الاقتصادية· فنسبة الحرمان كما يراها التقرير بمعايير التنمية الإنسانية الأساسية تبلغ 32,4 % قياسا على مؤشر الفقر الإنساني الذي يعرف الحرمان بقصر الأعمار وغلبة الأمية ونقص الخدمات الأساسية· وبالتالي نجد أن مؤشر قياس مستوى التنمية الإنسانية يركز على أبعاد ثلاثة لا رابع لها وهي: العيش حياة طويلة وصحية، واكتساب المعرفة، والوصول إلى الموارد اللازمة لمستوى معيشي لائق· لذلك نجد أن تقرير التنمية الإنسانية لا يركز فقط على الأبعاد الاقتصادية والتي يأتي على رأسها نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي ومعدلات البطالة، بل يذهب إلى أبعد من ذلك وأشمل حيث يتناول التعليم واكتساب المعرفة والحريات بكل صورها وأبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والخدمات الأساسية والتي يأتي على رأسها التعليم والصحة·

"والحقيقة أننا لو نظرنا إلى حالة العالم العربي والتساؤلات التي تم طرحها من قبل نجد أن العالم العربي قد قطع شوطاً كبيراً في مجال العون الإنمائي العربي والذي يتدفق بالطبع من الدول ذات الفائض في الموارد المالية إلى الدول ذات العجز عن طريق أجهزة مالية واقتصادية أقيمت خصيصاً لهذا الغرض، حيث نلاحظ أن هذا العون التراكمي من كافة مصادره خلال الفترة (1970-2000 ف) قد بلغ حوالى 110 مليارات دولارات أميركي شملت كافة الدول النامية وتم استغلالها في مختلف القطاعات وفي مشروعات شتى.

 ولقد ساهمت المملكة العربية السعودية بنسبة 64,4 %من إجمالي العون الإنمائي العربي، تليها الكويت بنسبة 16,3 %، ثم الإمارات بنسبة 10,5 %، ثم العراق بنسبة 2,9 %، ثم ليبيا بنسبة 2,5 %، ثم قطر بنسبة 1,9 %،ثم الجزائر بنسبة 1,1 %، ثم عُمان بنسبة 0,4 %· وقد حصلت الدول العربية على 61,3 %من إجمالي ذلك العون الإنمائي العربي، وحصلت الدول الآسيوية غير العربية على 20,5 %منه، وحصلت الدول الأفريقية غير العربية على 16,1 %منه، وحصلت دول أميركا اللاتينية على 1,4 %منه، أما النسبة الباقية والتي تمثل حوالي 0,7 %منه فحصلت عليها دول أخرى متفرقة· وقد توزع ذلك العون على قطاعات اقتصادية مختلفة فكانت نسبة 25,4 %منه قد ذهبت إلى قطاع الطاقة، ونسبة 20,1 %منه قد ذهبت إلى قطاع النقل والاتصالات، ونسبة 16,5 %منه ذهبت إلى قطاع الزراعة والثروة الحيوانية، ونسبة 15 %منه قد ذهبت إلى قطاع الصناعة والتعدين، ونسبة 6,7 %منه قد ذهبت إلى قطاع المياه والمجاري، وتوزع باقي النسبة والبالغ 16,3 %على القطاعات الاقتصادية الأخرى"[8]· وعلى الرغم من أن ذلك العون الإنمائي العربي قد توزع على مختلف القطاعات الاقتصادية إلا أنه لا يشكل نسبة تذكر عندما يتم توزيعه على مختلف الدول، حيث بلغ بالمتوسط كما رأينا حوالي 3,7 مليار دولار سنوياً خلال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين وكان أغلبه يأخذ الصورة العينية، أي صورة سلع وخدمات ومشروعات تنموية وليس صورة نقدية· فإذا كان الحال كذلك فكيف السبيل إذاً إلى إحداث قفزة نوعية في مجال التنمية الإنسانية والخروج من الحلقة المفرغة للتنمية الإنسانية التي تنحشر فيها كثير من الدول النامية.

"بالاطلاع على تقرير التنمية الإنسانية العربية[9] لعام 2002 ف الذي صدر باللغة العربية عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي والصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي لا تملك الفئة المثقفة في العالم العربي إلا أن تتساءل: أين تذهب إذاً الموارد الاقتصادية ومقدرات الأمة بل والكنوز الاقتصادية العظيمة التي يحتويها هذا الوطن الكبير من المحيط إلى الخليج؟ وأين هي الآثار الإيجابية لخطط وبرامج التنمية الاقتصادية والاجتماعية؟ وإذا كان هذا هو الواقع فما هي أسبابه؟ وكيف السبيل إلى تجاوز تلك الأسباب والعقبات؟ ولماذا تجاوزتنا بعض الدول النامية؟ وكيف سيكون حالنا في المستقبل مع تزايد حجم العقبات والتحديات التي لم نحسب لها الحسابات اللازمة؟"[10]

ثانيا : تكلفة هجرة الأدمغة على مستوى الدول العربية

تتمثل النتائج الخطيرة لهجرة الكفايات العلمية في فقدان الوطن لإمكانات هذه الكفايات العلمية والفكرية والتربوية التي انفق على تعليمها وإعدادها أموالا وجهودا كبيرة، حيث تؤدي هذه الهجرة لإعاقة عملية التقدم، وإبطاء حركة التنمية وإضعافها، والى إبطاء عملية الإنتاج العلمي والتكنولوجي.
وتزايدت هجرة العقول العربية في العقود الثلاثة الأخيرة لأسباب كثيرة منها عدم توفير الظروف المادية والاجتماعية التي تؤمن مستوى لائقا من العيش بالإضافة إلى ضعف الاهتمام بالبحث العلمي وعدم وجود مراكز البحث العلمي المطلوبة، إلى جانب المشاكل السياسية والاجتماعية وعدم الاستقرار التي تعاني منها أقطار عربية مختلفة، وقدرت خسارة العرب بسبب هجرة العقول العربية بـ 1.57 مليار دولار سنويا كما ورد في دراسة حديثة صدرت في دمشق وجاء في التقرير انه وفي الوقت الذي تدفع فيه الأوضاع المعيشية والعلمية والاجتماعية إلى هجرة الأدمغة العربية، فان دول الغرب والولايات المتحدة تسعى لاستقطاب هذه الأدمغة من خلال تقديم وسائل الجذب المادية والحياتية الكبيرة، لكي توظفها في خدمة البحث العلمي والصناعي، وتأتي الولايات المتحدة في مقدمة هذه الدول التي تسعى بجميع الوسائل للاحتفاظ باللامعين من العقول الأجنبية المتخرجة من جامعاتها، لمجرد كونهم حصلوا على تعليمهم الجامعي في الجامعات الأمريكية، وتطالب بعض الفعاليات السياسية الأمريكية بزيادة قيمة الحصول على بطاقة الإقامة «جرين كارت» للمتخرجين في التقانة العالية من 90 ألفا في عام  1998 ف، إلى 150 ألفا في عام  1999 ف، و210 آلاف في عام 2000 ف.
تمثل الولايات المتحدة أول دولة تستنزف دول العالم بما فيها الدول المتقدمة فقد بلغت الهجرة من كندا إلى الولايات المتحدة 17 ألفا في السبعينات ووصلت الآن إلى تسعين ألفا، مما استدعى من الحكومة الكندية البحث عن السبل الكفيلة بوقف نزيف هذه العقول.
وإذا كانت الدول التي تشهد هذه الهجرة تحقق فائدة من تحويلات المغتربين في الخارج إلى ذويهم، وقد تصل هذه العائدات إلى مبالغ كبيرة كما هو الحال في اليمن ومصر ولبنان، فإن سلبيات هذه الهجرة تبقى اكبر بكثير، ويحاول البعض أن يرى في هذه الهجرة حلا لمشاكل البطالة في هذه البلدان، خاصة وان هناك صعوبة من قبل هذه البلدان في توفير العمل المجزي للعلماء والخبراء بسبب تخلف مستوى البحث العلمي في البلدان النامية، وعجز الاقتصاد الوطني عن استيعاب جميع الكفايات العلمية.
وكما هو واضح في هذا الرأي فإن ثمة عدم فهم وإدراك كاف لخطورة هجرة العقول، ليس فقط من قبل الحكومات العربية، ولكن من قبل المجتمع العربي ككل، فعلى الرغم من وجود صعوبات كبيرة في إمكانية استعادة هذه العقول وهذه الكفايات ليستفيد منها الوطن، فان هناك إمكانية للاستفادة منها ومن قدراتها المتميزة في عملية التنمية والتطوير التربوي والصناعي والثقافي وذلك عبر إيجاد صلات مستمرة ودائمة بين الوطن الأم وهذه العقول والخبرات، واستقدامها لزيارة وطنها وتقديم الرأي والخبرة والإشراف على مشاريع التطوير العلمي.
إن هذا المسعى يجب أن ينطلق من إدراك إن هذه العقول العربية في بلدان الهجرة تمتلك إمكانيات تقنية وعلمية وتربوية كبيرة ولديها الرغبة والاستعداد لتقديم خبراتها ومعرفتها للمساهمة في خدمة وطنها وهذه سمة مميزة للعقول العربية على العكس من الهجرات الأسيوية والأمريكية اللاتينية وحتى من أوروبا الغربية.

الجزء الثالث : الخلاصة والتوصيات
أولا : الخلاصة
في الحقيقة لا يمكن من الناحية العلمية والواقعية أن يتم وضع كافة أقطار الوطن العربي الكبير في سلة واحدة وتعطى تصنيفاً واحداً، فهناك بعض الدول العربية الغنية بثرواتها وكنوزها الاقتصادية مثل الدول الخليجية ودول عربية أخرى قد قطعت شوطاً كبيراً في مجال التنمية الإنسانية وعرفت مبكراً أن الموارد البشرية هي أهم الموارد الاقتصادية على الإطلاق، حيث أن التنمية الاقتصادية لا تتم إلا بها ومن أجلها· فهي الدعامة الأساسية للتنمية الاقتصادية· وبالتالي بدأت هذه الدول تعد العدة لذلك الهدف وتسخر الموارد الاقتصادية بالفعل لخدمة الموارد البشرية ومن ثم أوجدت موارد بشرية قادرة على تحمل المسؤولية والسير قدماً في خطط وبرامج التنمية الاقتصادية ولا يعني ذلك أن هذه الدول جميعها قد سارت في هذا المجال بالصورة المثالية المنزهة عن الأخطاء، حيث تجد التفاوت التنموي الكبير يبدو واضحاً جلياً، في داخل القطر الواحد، ولكنه حكم نسبي عندما تتم مقارنته ببعض الأقطار العربية التي تمتلك الثروات والمقدرات الضخمة ولا تستغلها لخدمة التنمية البشرية بالصورة المناسبة.

ومع أن غالبية الإحصائيات المتوافرة عن هجرة العقول العربية لا تغطي الصورة الكاملة عن حجم مشكلة الأدمغة النازحة، وبصورة خاصة الخسائر المادية التي تمنى بها الدول العربية، إلا أننا عندما نعرف أن خسارة البلدان الظاهرية من هجرة العقول تخمن سنويا ب 100 مليون دولار،[11] فإن ذلك يعطينا إشارة بليغة إلى ما تعنيه هجرة الأدمغة وما تخلفه من آثار مدمرة وكوارث بالنسبة لعملية تطور الوطن العربي.


     هذا ويربط تقرير التنمية الإنسانية 2002  بين التنمية الإنسانية من ناحية والتنمية الاقتصادية من ناحية أخرى، حيث يعرف التنمية الإنسانية بأنها هي تنمية الناس، ومن أجل الناس، ومن قبل الناس، وبما أن الناس هم محور التنمية الإنسانية ومن ثم التنمية الشاملة فبالتالي لابد وأن يكون لمشاركة الناس دور رئيسي في تطورها·
وبالطبع فالمشاركة تأخذ صوراً وأشكالاً عديدة من المشاركة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية· ولضمان توفر وسيادة المشاركة والروح الديمقراطية فلابد من توفر الحرية والمنافسة في مختلف صورها وأبعادها والنظم التعليمية والإدارية المعاصرة المبنية على أسس علمية مدروسة· فإذا نظرنا إلى حال الأقطار العربية اليوم فلابد لنا من توفير ذلك المناخ الملائم للتنمية الإنسانية المناسبة ومن ثم التنمية الاقتصادية· إنها حقاً معادلة في غاية الصعوبة· وانتفائها يسبب هجرة العقول العربية إلى خارج الوطن العربي.

فإذا لم يتوفر استقرار اقتصادي وسياسي وأمني واجتماعي واستراتيجي، أدى إلى هجرة العقول العربية والقوة العاملة بشكل عام وهجرة رؤوس الأموال وتفضيل البيئات الاقتصادية التي تتميز بالأمن والاستقرار·

ثانيا : التوصيات
وهنا يجب التأكيد على ضرورة وضع سياسة واضحة لتوزيع العمالة بحيث تلبي احتياجات قطاع الاقتصاد والخدمات والأجهزة المختلفة من قوة العمل وتمنع تسرب قوة العمل إلى النشاطات الهامشية، وتضع حداً للهجرة الواسعة من الريف إلى المدينة، وتحد من تسرب الكفايات إلى خارج القطر النامي، وتقضي على البطالة المقنعة والظاهرة في المجتمع. بالإضافة إلى ضرورة تشجيع المبادرات وتكريم المبادرين والمخترعين والمبدعين على مختلف درجاتهم. والاهتمام بالكفايات والأدمغة المهاجرة وإيجاد السبل والحوافز الكفيلة بعودتها ومساهمتها في تنفيذ خطط التنمية وبناء الوطن والعمل لاستعادة الكفايات المهاجرة، أو على الأقل استعادة قسم منها بحاجة إلى سياسة متزنة تهدف إلى خدمة التطور الاقتصادي والاجتماعي وتقوم على جملة من الأسس، في مقدمتها :
فسح المجال أمام المجتمع لمتابعة قفزات الثورة العلمية التقنية الجارية في العالم، وتحسين الوضع المعاشي للعاملين واحترام الخبرات وتقديرها، وإيلاء العلم والعمل مكانة رفيعة في المجتمع.
العمل على ملاحقة النشاطات الطفيلية وما تفرزه من قيم وأخلاق وسلوك
العمل على اتخاذ إجراءات جديدة في مقدمتها إقامة بنك معلومات للعلماء العرب في بلاد المهجر يتضمن معلومات عن تخصصاتهم وأعمالهم العلمية ومواقع عملهم، كذلك من المؤكد أهمية التعاون مع العديد من أساتذة الجامعات العرب العاملين في الجامعات الأمريكية والأوروبية للمشاركة في الإشراف على رسائل الدكتوراه والماجستير لطلبة الدراسات العليا، ودعوتهم للمشاركة في لجان التحكيم، كما يمكن دعوة عدد منهم كأساتذة زائرين للتدريس في كليات الجامعات العربية وللمساهمة في مشاريع البحث العلمي مع الفرقاء المحليين وهذا يتطلب أن يكون هناك مشاريع للبحث العلمي أولا.
ويمثل خلق مراكز البحث اللبنة الأولى في جذب العلماء المغتربين وللاحتفاظ بالكوادر العلمية الوطنية المحلية، وبالتعاون مع البلدان العربية الأخرى عبر منظمات الجامعة العربية يمكن وضع الاستراتيجية والسياسات العربية للاتصال بالعلماء والتقنيين العرب في الخارج لحثهم على العودة إلى أوطانهم، أو المشاركة في برامج الإنماء الوطنية والعربية.
كما أنها مشجعة على عودة الرساميل العربية العاملة في الخارج بتوظيفها في الوطن العربي الذي يحتاج إليها في عمليات التنمية والتطوير التي يتطلبها، وهذا يحتاج إلى مبادرة عربية مشتركة من خلال بعض المنظمات المختصة بهذا الشأن على طريق تحقيق التكامل الاقتصادي العربي، وفي إطار مشاريع عربية إقليمية يمكن للجامعة العربية أن تتبناها، وكذلك الأمر في مشاريع قطرية ذات صبغة إنتاجية وتقنية وعلمية.
مقترحات عملية :-

تبقى المعالجة الجذرية لهجرة الأدمغة تتطلب سياسات وخططاً متكاملة. وتقدم هذه الورقة مقترحات منها:
1 - بحث دوافع هجرة الأدمغة العربية خاصة الاقتصادية منها والاجتماعية والسياسية مع توفير عناصر الاستقرار لهم من حيث الإسكان والترحال والبحث العلمي.
2 - الاستفادة من قدرات هذه الأدمغة ومعارفها في مواقع عملها.
3 - تشجيع الاتصال المستمر بين الأدمغة العربية المهاجرة مع بلدانها العربية.
4 - إشراك هؤلاء المهاجرين في النشاطات الفكرية والعلمية التي تتم داخل الوطن العربي.
5 - إنشاء شبكة عربية عامة متخصصة في كل مجال للعلماء والتقانيين العرب الموجودين خارج الوطن العربي.
6 - تشكيل منظمة عربية خاصة للاستفادة من الطاقات الإبداعية العربية الموجودة في الخارج.
7 - سن التشريعات العربية الهادفة التي تمكن العقول النادرة من أن تجد تخصصاتها داخل الوطن العربي.

ويمكن أن يبدأ هذا التوجه عبر مشاريع تكنولوجية تحتاج إلى اقل قدر من الاستثمارات الجديدة، وتعطي عائدا اكبر، على أن يتم توزيع المسئوليات والميادين العلمية والتكنولوجية على جميع القطاعات الاقتصادية والعلمية والتربوية، وبذلك يمكن الاستفادة من هذه العقول، لكن يبقى أولا إيجاد مناخ الاستقرار الاجتماعي والسياسي[12]، وإيجاد فرص الحياة والعمل المجزية التي تليق بهذه الكفايات والعقول هي الأساس في ربط هذه العقول ببلدانها لكي لا تشكل نزيفا دائما ومستمرا وخسارة لا تعوض بالنسبة للبلدان العربية.


المراجع :

الكتب

1-   …..اقتصاديات التعليم ………… الفصل السابع " هجرة الأدمغة " ………………..
2-   جمال أسد مزعل، " الاعتبارات الاقتصادية في التعليم" ، وزارة التعليم العالي، جامعة الموصل.
3-   محمد الحسين الصطوف، "الإحصاء السكاني"، منشورات جامعة سبها، ليبيا، الطبعة الأولى 1995ف.
4- محمود عباس عابدين، " علم اقتصاديات التعليم الحديث"، الدار المصرية اللبنانية، 16 ش عبد الخالق ثروت – القاهرة، ص. ب. : 2.22 – القاهرة، الطبعة الأولى 2000ف.
5-   رياض عواد، هجرة العقول"، دار الملتقى للنشر، ليماسول – قبرص ص. ب . : 6527، الطبعة الأولى 1995 ف.

التقارير


6-   الهيئة الوطنية للمعلومات والتوثيق ، " تقرير التنمية البشرية 1999، الهيئة الوطنية للمعلومات والتوثيق طرابلس 1999
7- الهيئة الوطنية للمعلومات والتوثيق، " النتائج النهائية لحصر القوى العاملة 2001" الهيئة الوطنية للمعلومات والتوثيق 2001.
8- المركز الوطني لتخطيط التعليم والتدريب، " ثلاثون عام ثورة من أجل بناء الانسان، مسيرة التعليم والتدريب في ليبيا 1969 – 1999 "، المركز الوطني لتخطيط التعليم والتدريب الفاتح 1999.
9- برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي، " تقرير التنمية الإنسانية العربية للعام 2002- خلق فرص للأجيال القادمة"،المكتب الإقليمي للدول العربية، أيقونات للخدمات المطبعية، عمان 2002.

مواقع الانترنت :
10-                     http://www.damascus-online.com/
11-                     http://www.mafhoum.com/
12-                     http://www.albayan-magazine.com/
13-                     http://www.muslimworldleague/
14-                   http://www.arab-ipu.org



[1]  صالح سلام الهيالي،  فهيمة الهادي الشكشوكي، ورقة بعنوان "هجرة الأدمغة" مقدمة / د.أحمد أبو لسين – ضمن متطلبات مادة اقتصاديات التعليم معهد التخطيط للدراسات العليا
[2]  محمد الحسين الصطوف، "الإحصاء السكاني"، منشورات جامعة سبها، ليبيا، الطبعة الأولى 1995
[3]  ………………………….." اقتصاديات التعليم" …………………………
[4]  http://www.arab-ipu.org
[5]  http://www.muslimworldleague
[7]  برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي، " تقرير التنمية الإنسانية العربية للعام 2002- خلق فرص للأجيال القادمة"،المكتب الإقليمي للدول العربية، أيقونات للخدمات المطبعية، عمان 2002
[9]  مرجع سبق ذكره، برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي، " تقرير التنمية الإنسانية العربية للعام 2002- خلق فرص للأجيال القادمة"،المكتب الإقليمي للدول العربية، أيقونات للخدمات المطبعية، عمان 2002
[10]  محمد إبراهيم الرميثي، آفاق التنمية الإنسانية في العالم العربي، أستاذ الاقتصاد – جامعة الإمارات، http://www.mafhoum.com/

[11]  رياض عواد، هجرة العقول"، دار الملتقى للنشر، ليماسول – قبرص ص. ب . : 6527، الطبعة الأولى 1995 ف.

ليست هناك تعليقات: